كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقام بشريعة موسى وعاش مائة سنة.
{ذَا الأيْدِ} يقال: آد يئيد أيدًا مثل باع يبيع بيعًا اشتد وقوي.
والأيد: القوة كما في القاموس والقوة الشديدة كما في المفردات؛ أي: ذا القوة في الدين القائم بمشاقه وتكاليفه.
وفي الكواشي: ويجوز أن يراد القوة في الجسد والدين. انتهى.
واعلم أنه تعالى ذكر أولًا قوة داود في أمر الدين ثم زلته بحسب القضاء الأزلي، ثم توبته بحسب العناية السابقة وأمره عليه السلام بذكر حاله وقوته في باب الطاعة ليتقوى على الصبر ولا يزل عن مقام استقامته وتمكينه كما زل قدم داود فظهرت المناسبة بين المسندين واتضح وجه عطف واذكر على اصبر.
{إِنَّه أَوَّابٌ} من الأوب، وهو الرجوع؛ أي: رجاع إلى الله ومرضاته؛ أي: عن كل ما يكره الله إلى ما يحب الله، وهو تعليل لكونه ذا الأيد.
ودليل على أن المراد به القوة في أمر الدين وما يتعلق بالعبادة لا قوة البدن؛ لأن كونه راجعًا إلى مرضاة الله لا يستلزم كونه قوي البدن.
وقد روى أنه لم يكن جسيمًا كسائر الأنبياء بل قصير القامة، وأكثر القوى البدنية كان فيمن زاده الله بسطة في جسمه.
وفي التأويلات النجمية: تشير الآية إلى كماليته في العبودية بأنه لم يكن عبد الدنيا ولا عبد الآخرة، وإنما كان عبدنا خالصًا ومخلصًا وله قوة في العبودية ظاهرًا وباطنًا.
فأما قوته ظاهرًا فبأنه قتل جالوت، وكثيرًا من جنوده بثلاثة أحجار رماها عليهم وأما قوته في الباطن فلأنه كان أوابًا وقد سرت أوابيته في الجبال والطير، فكانت تؤوب معه انتهى.
ومن قوة عبادة داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وذلك أشد الصوم، وكان ينام النصف الأول من الليل ويقوم النصف الأخير منه مع سياسة الملك.
وفي بعض التفاسير كان ينام النصف الأول من الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وهو الموافق لما في المشارق من قوله عليه السلام: «أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا وأحب الصلاة إلى الله»؛ أي: في النوافل: «صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه»، وإنما صار هذا النوع أحب؛ لأن النفس إذا نامت الثلثين من الليل تكون أخف وأنشط في العبادة.
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} بيان لفضله مع داود؛ أي: ذللناها ومع متعلق بالتسخير وإيثارها على اللام لكون تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق تفويض التصرف فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان سيرها معه بطريق تفويض التبعية له، فتكون مع على حالها، ويجوز أن تكون مع متعلقة بما بعدها.
وهو قوله: {يُسَبِّحْنَ} أي: حال كونها تقدس الله تعالى مع داود لم يقل مسبحات للدلالة على تجدد التسبيح حالًا بعد حال.
قال في كشف الأسرار: كان داود يسمع ويفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيصه به كرامة له ومعجزة. انتهى.
واختلفوا في كيفية التسبيح، فقيل: بصوت يتمثل له وهو بعيد.
وقيل: بلسان الحال، وهو أبعد.
وقيل: بخلق الله في جسم الجبل حياة وعقلًا وقدرة ونطقًا فحينئذٍ يسبح الله كما يسبح الأحياء العقلاء.
وهذا لسان أهل الظاهر، وأما عند أهل الحقيقة فسر الحياة سار في جميع الموجودات حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا، فالحياة في الكل حقيقة لا عارضية أو حالية أن تمثيلية لكن إنما يدركها كُمَّل المكاشفين فتسبيح الجبال مع داود على حقيقته لكن لما كان على كيفية مخصوصة وسماعه على وجه غريب خارج عن العقول كان من معجزات داود عليه السلام وكراماته.
وقد سبق مرارًا تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه من الكلام.
{بِالْعَشِىِّ} في آخر النهار.
{وَالاشْرَاقِ} في أول النهار ووقت الإشراق هو حين تشرق الشمس؛ أي: تضيء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها. يقال: شرقت الشمس ولما تشرق.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أمر بهذه الآية ولا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل عليها يوم فتح مكة فدعا بوضوء فتوضأ.
وفي البخاري: واغتسل في بيتها ثم صلى الضحى ثماني ركعات.
وقال: «يا أم هانيء هذه صلاة الإشراق».
ومن هنا قال بعضهم: من دخل مكة وأراد أن يصلي الضحى أول يوم اغتسل وصلاها كما فعله عليه السلام يوم فتح مكة.
وقال بعضهم: صلاة الضحى غير صلاة الإشراق كما دل عليه قوله عليه السلام: «من صلى الفجر بجماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة».
وهي صلاة الإشراق كما في شرح المصابيح وقوله عليه السلام: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال من الضحى».
والمعنى: أن صلاة الضحى تصلى إذا وجد الفصيل حرّ الشمس من الرمضاء؛ أي: من الأرض التي اشتد حرها من شدة وقع الشمس عليها، فإن الرمض: شدة وقع الشمس على الرمل وغيره والفصيل الذي يفصل ويفطم عن الرضاع من الإبل وخص الفصال هنا بالذكر؛ لأنها التي ترمض لرقة جلد رجلها.
وفيه إشارة إلى مدحهم بصلاة الضحى في الوقت الموصوف؛ لأن الحر إذا اشتد عند ارتفاع الشمس تميل النفوس إلى الاستراحة، فيرد على قلوب الأوابين المستأنسين بذكر الله تعالى أن ينقطعوا عن كل مطلوب سواه.
يقول الفقير: يمكن التوفيق بين الروايتين بوجهين:
الأول: يحتمل أن يكون الإشراق من أشرق القول إذا دخلوا في الشروق؛ أي: الطلوع، فلا يدل على الضحى الذي هو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها.
والثاني: أن أول وقت صلاة الإشراق هو أن ترتفع الشمس قدر رمح وآخر وقتها هو أول وقت صلاة الضحى فصلاة الضحى في الغداة بإزاء صلاة العصر في العشي، فلا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة ويرتفع كدرها بالكلية وتشرق بنورها كما يصلى العصر إذا اصفرت الشمس.
فقوله عليه السلام: «هذه صلاة الإشراق»، إما بمعنى: أنها إشراق بالنسبة إلى آخر وقتها، وإما بمعنى: أنها ضحى باعتبار أول وقتها.
قال عبد الرحمن البسطامي قدس سره في ترويح القلوب يصلي أربع ركعات بنية صلاة الإشراق فقد وردت السنة يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الشمس وضحاها.
وفي الثانية: والليل إذا يغشى، وفي الثالثة: والضحى.
وفي الرابعة: ألم نشرح لك.
ثم إذا حان وقت صلاة الضحى، وهو إذا انتصف الوقت من صلاة الصبح إلى الظهر يصلي صلاة الضحى.
وأقلّ صلاة الضحى: ركعتان أو أربع ركعات أو أكثر إلى ثنتي عشرة ركعة ولم ينقل أزيد منها بثلاث تسليمات وإن شئت بست تسليمات ورد في فضلها أخبار كثيرة من صلاها ركعتين، فقد أدى ما عليه من شكر الأعضاء لأن الصلاة عمل بجميع الأعضاء التي في البدن، ومن صلاها ثنتي عشرة ركعة بني له قصر من ذهب في الجنة وللجنة باب يقال له: الضحى. فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الذين كانوا يدومون على صلاة الضحى هذا بابكم، فادخلوه برحمة الله عزّ وجلّ.
{وَالطَّيْرَ} عطف على الجبال. جمع طائر كركب وراكب، وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء.
{مَحْشُورَةً} حال من الطير، والعامل سخرنا؛ أي: وسخرنا الطير حال كونها محشورة مجموعة إليه من كل جانب وناحية: وبالفارسية: جمع كرده شد نزد وى وصف زده بالاى سروى.
وكانت الملائكة تحشر إليه ما امتنع عليه منها كما في كشف الأسرار عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت.
وذلك حشرها وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين، بأن يقال: يحشرن؛ لأن الحشر جملة أدل على القدرة منه متدرجًا كما يفهم من لفظ المضارع.
{كُلٌّ} أي: كل واحد من الجبال والطير {لَهُ} أي: لأجل داود لأجل تسبيحه، فهو على حذف المضاف.
{أَوَّابٌ} رجاع إلى التسبيح إذا سبح سبحت الجبال والطير معه. ووضع الأواب موضع المسبح؛ لأنها كانت ترجح التسبيح والمرجع رجاع؛ لأنه يرجع إلى فعله رجوعًا بعد رجوع.
والفرق بينه وبين ما قبله وهو يسبحن. أن يسبحن يدل على الموافقة في التسبيح. وهذا يدل على المداومة عليها. وقيل: الضمير؛ أي: كل من داود والجبال والطيرأواب؛ أي: مسبح مرجع.
التسبيح والترجيع بالفارسية نغمت كردانيدن- روي- أن الله تعالى لم يعط أحدًا من خلقه ما أعطى داود من حسن الصوت، فلما وصل إلى الجبال ألحان داود تحركت من لذة السماع فوافقته في الذكر والتسبيح ولما سمعت الطيور نغماته صفرت بصفير التنزيه والتقديس ولما أصغت الوحوش إلى صوته ودنت منه حتى كانت تؤخذ بأعناقها فقبل الكل فيض المعرفة والحالة بحسب الاستعداد إلا ترى إلى الهدهد والبلبل والقمرى والحمامة ونحوها.
فالتأثر والحركة والبكاء ونحوها ليست من خواص الإنسان فقط بل إذا نظرت بنظر الحقيقة وجدتها في الحيوانات بل في الجمادات أيضًا لكونها أحياء بالحياة الحقيقية كما أشير إليه فيما سبق.
قال بعض كبار المكاشفين: سبحت الجبال وكذا الطير لتسبيح داود ليكون له عملها، لأن تسبيحها لما كان لتسبيحه منتشأ منه لا جرم يكون ثوابه عائدًا إليه لا إليها لعدم استحقاقها لذلك بخلاف الإنسان فإنه إذا وافقه إنسان آخر في ذكره وتسبيحه، أو عمل بقوله يكون له مثل ثواب ذكره وتسبيحه لإحيائه وإيقاظه فهو صيده، وأحق به، وإنما كان يسبح الجبال والطير لتسبيحه، لأنه لما قوي توجهه عليه السلام بروحه إلى معنى التسبيح والتحميد سرى ذلك إلى أعضائه وقواه؛ فإنها مظاهر روحه ومنها إلى الجبال والطير فإنها صور أعضائه وقواه في الخارج، فلا جرم يسبحن لتسبيحه وتعود فائدة تسبيحها إليه وخاصية العشي والإشراق أن فيهما زيادة ظهور أنوار قدرته وآثار بركة عظمته، وأن وقت الضحى وقت صحو أهل السكر من خمار شهود المقامات المحمودة، وأن العشي وقت إقبال المصلين إلى المناجاة وعرض الحاجات.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} قوينا ملكه بالهيبة والنصرة ونحوهما.
وقيل: كان أربعون ألف لابسي درع يحرسونه، فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله وكان نبينا عليه السلام يحرس أيضًا إلى نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
ومن ذلك أخذ السلاطين الحرس في السفر والحضر فلا يزالون يحرسونهم في الليالي ولهم أجر في ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ادعى رجل على رخر بقرة وعجز عن إقامة البينة فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: أن اقتل المدعى عليه فأعلم الرجل فقال: صدقت يا نبي الله، إن الله لم يأخذني بهذا الذنب. ولكن بأني قتلت أبا هذا غيلة، فقتله فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبًا أظهره الله عليه فقتله فهابوه، وعظمت هيبته في القلوب.
والغيلة: بالكسر هو أن يخدع شخصًا فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي: العلم بالأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاه إن كان متعلقًا بكيفية العمل.
واعلم أن الحكمة نوعان:
أحدهما: الحكمة المنطوق بها وهي علم الشريعة والطريقة.
والثاني: الحكمة المسكوت عنها وهي أسرار الحقيقة التي لا يطلع عليها عوام العلماء على ما ينبغي فيضرهم أو يهلكهم.
كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يجتاز في بعض سكك المدينة مع أصحابه فأقسمت عليه امرأة أن يدخلوا منزلها، فدخلوا فرأوا نارًا موقدة وأولاد المرأة يلعبون حولها، فقالت: يا نبي الله أرحم بعباده أم أنا بأولادي، فقال عليه السلام: «بل الله أرحم فإنه أرحم الراحمين». فقالت: يا رسول الله أتراني أحب أن ألقي ولدي في النار فقال: «لا». فقالت: فكيف يلقي الله عبيده فيها، وهو أرحم بهم. قال الراوي: فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «هكذا أوحي إلي».
{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} لبيان تلك الحكمة على الوجه المفهم كما في شرح الفصوص للمولى الجامي رحمه الله، فيكون بمعنى الخطاب الفاصل؛ أي: المميز والمبين، أو الخطاب المفصول؛ أي: الكلام الملخص الذي ينبه المخاطب على المرام من غير التباس.
وفي شرح الجندي: يعني الإفصاح بحقيقة الأمر وقطع القضايا والأحكام باليقين من غير ارتياب، ولا شك ولا توقف، فيكون بمعنى فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل، فالفصل على حقيقته، وأريد بالخطاب المخاصمة لاشتمالها عليه.
وفي التأويلات النجمية: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} في الظاهر بأن جعلناه أشد ملوك الأرض في الباطن بأن {وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}.